دخل المستعمر الفرنسي الأراضي الموريتانية منذ بداية القرن الماضي وبسط نفوذه على هذه الربوع على مراحل مختلفة ،
إلا أن هذا الدخول لم يكن مفروشا بالورود حسب البعض إذ عرف "مقاومة" شرسة على فترات مختلفة شهدت حالات مد وجزر لها أسبابها
المعروفة، إلا أنني وعلى الرغم من عدم اتفاقي مع البعض حول ما يسمونه "مقاومة"
في موريتانيا والذي أفرقه إلى نوعين مختلفين الأول منهم وهو الأهم يتمثل في المقاومة
الثقافية التي حاربت إلى حد كبير الغزو الفكري الفرنسي، أما النوع الثاني فهو مجرد
مجموعة أمراء يحاولون الدفاع عن إماراتهم
وحوزتهم بصفة عامة وليس لهم وعي وطني حول الدولة الوطنية التي لم يبدأ تشكلها إلا مع بداية الستينيات
ومغادرة المستعمر شكليا، ومنه تكون تلك المقاومة المزعومة لا تتعدي مجموعة رجال
يحاولون الإبقاء على سلطتهم الظالمة.
على الرغم من هذا كله فإنه تنبغي الإشادة بالدور البارز الذي اضطلعت
به شريحة مهمة من المجتمع الموريتاني تعرف محليا ب (لمعلمين) على القيمة المضافة
التي وفرت لهذا المجتمع منذ تلك الفترة إلى الآن، فإبان الصراع المسلح الذي ووجه
به المستعمر كان لمعلم (الصانع التقليدي) الممون الأول بالأسلحة التقليدية التي
لولاها لكان أولائك الأمراء تساقطوا صرعى في أيامهم الأول ومع ذلك لم يجنوا من ذلك
الا الإهانة والجحود وتلفيق الأقاويل وإعطائها صبغة دينية من خلال الزوايا الذين كانوا
يحاولون شراء أعراضهم من الأمراء الظالمين.
حول هذا الموضوع احتضن المركز الثقافي المصري يوم الخميس 13\12\2012
محاضرة بعنوان " دور الصناع التقليديين في مقاومة الاستعمار" وأذكر أني
كنت أقرأ لافتة إعلان المحاضرة فمر رجل وأفرج
عن ابتسامة ساخرة وقال بعدها، أي دور غير " أكل الرأس"؟، استغربت من هذا
الرجل ، قلت له هل تعرف بم حارب من تصفهم برجال المقاومة الاستعمار؟، قال نعم،
بالمدافع، ومن صنعهم ،قال لمعلمين، فماذا تسمي ذلك، فبهت الذي كفر، هذا مثال بسيط
على الحاجة الماسة لتغيير عقلية المواطن العادي الذي يعيش على أفكار بالية متوارثة
منذ القدم، المحاضرة تناولت عدة نقاط أهمها التجاهل الثقافي للنشاطات التي أنتجتها
هذه الشريحة إذ لم تجد من يمتدحها مثلا حتى يكون ذلك شاهدا على دورها الريادي، كما
أن تاريخ هذه الشريحة لا يزال طي النسيان، و ينبغي حسب أحد المحاضرين أن يقام
بدراسات وافية شاملة عن دور الصناعة التقليدية وما ترتب عنه من نتائج مشهودة كأن يطرح السؤال
مثلا، كيف جاء الصانع التقليدي بهذه الآلات وكيفية ابتكاره لبعض الرسوم المعبرة
على الآلات التقليدية، قبل أن يشر إلى الدور الاقتصادي الهام الذي تقوم به هذه
الفئة من الشعب خاصة عبر القطاع السياحي الذي يوفر مداخيل هامة لميزانية الدولة،
محاضر آخر ركز على أهمية الصناعة التقليدية واعتبارها عملا شريفا مارسه الأنبياء
والرسل فنوح كان نجارا ، وداود كان حدادا، وركز كذلك على ضرورية إيلاء الأهمية
الكافية لهذا القطاع خاصة في عصرنا الحالي الذي صارت الأسواق مفتوحة لكل المنتجات
الخارجية المتميزة بتنافسيتها الشديدة، العنف "الإجتماعي" الممارس على
هذه الشريحة حظي هو الآخر بجانبه من التنديد وأشد أنواعه العنف اللفظي والمعنوي
الذي يعمل على تثبيط الروح الإنتاجية ل (لمعلم) وإشعاره بدونيته بدل تشجيعه وحثه
على مواصلة جهوده، وقد حول المجتمع كلمة (معلم) إلى نكاية وسخرية من الصانع
التقليدي في تكريس واضح للظلم الاجتماعي إضافة إلى أوصاف أخرى نهي عنها الدين الإسلامي
الحنيف الذي ينبغي أن يكون المظلة التي تجمع المجتمع ككل.
الجانب السياسي لم يكن غائبا هو الآخر، فقد ألقى المحاضر باللوم على
الشريحة نفسها مذكرا بأن "الحقوق لا تعطي بل تنتزع" وعليه على
"لمعلمين" أن يطالبوا بحقوقهم السياسية المتمثلة في تمثيلهم في المشهد
السياسي المغيبين عنه بفعل فاعل أو بفعلهم هم حسب المحاضر، وعلى الدولة من ناحية
أخري أن توليهم أهمية سياسية تتمثل في إشراكهم في تسيير شؤون البلد، ولن يعدمها من
يستحق ذلك وهم كثير، وطالب المحاضر كذلك بإدراج قضايا الصناعة التقليدية في
المناهج التربوية كإسهام منها للتحسيس بالدور البارز الذي حققته، قبل أن يطالب
وسائل الإعلام بلعب دورها في توجيه وتنوير
الرأي العام في هذا الخصوص، ولم ينس دور المثقفين المخلصين لوطنهم حيث طالب منهم
المزيد من العمل على إبراز الوجه الناصع لهذه الشريحة ،ليختم بمطالبة شريحة "
لمعلمين " نفسها بعدم الخجل من هذه التسمية
بل عليهم الاعتزاز بأنفسهم حتى يحترمهم الآخرين وعليهم كذلك العمل على
تغيير الصورة النمطية التي يحملها المجتمع عنهم وذلك عبر النضال والحوار الفكري الجاد
بعيدا عن التشدد والتطرف.
لكن
المجتمع الموريتاني الضارب في التخلف والجهل لن يعدم وسيلة لزيادة الضغط الفكري
والنفسي على هذه الشريحة التي بدأت تعلى صوتها مطالبة بحقها باعتبارها مكون لا غنى
عنه في المجتمع الموريتاني تاريخيا وحاضرا، وعليه تجب مواجهة كل تلك التحديات التي
سيحاول المجتمع لا محالة وضعها في طريق مطالبة هذه الفئة بحقوقها.