لم أنس ،في ذلك الصباح الباكر، عند بزوغ خيوط الفجر الأولى . صياح
الديك المتواصل لتأكيد حلول اليوم، وبداية هم جديد، لم أنس تلك الأيدي الناعمة
التي تنسدل على جسمي من تحت اللحاف ،منادية برفق ، قم يا ولدي، لقد حان وقت الصلاة ،أحاول جاهدا التغلب على
نفسي المتثاقلة، الساعية إلى نوم أعمق، إلا أن زقزقة الطيور الممزوجة برائحة الربيع المنبعثة من
محيطنا المخضر تبعث في نشاطا يغريني إلى مغادرة مطرحي، إلى الفناء اللامحدود.
الممتد إلى حدود البصر.،أرفع اللحاف بسرعة البرق ، التفت في جوانبي الأربعة. إلى
حيطان صامتة،جافة، لا حياة فيها، مجرد لوحات باهتة وأوراق معلقة من مجلة قديمة
تحمل صور مغبرة لزعماء تاريخيين لطالما شكلوا بذرة تشكل الوعي السياسي والتاريخي
لدي، أقف للمرة الأولى ،أتمدد ،أتمطى حتى تطقطق أعصابي ،أوشك على السقوط ، أتثاءب
بعنف وأخطو خطوات متثاقلة باتجاه الحمام.
قطع خبز يابسة، متناثرة هنا وهناك ، أتجول يمينا ويسارا ،أبحث عن
لاشيء، أمد يدي لقطعة الخبز تلك، أهرسها بكل ما أوتيت من قوة ، لقد أخرجت قليل من
الغضب الذي بات يلازمني ليذكرني بتلك
اللحظة التي فقدت فيها كل كرامتي، كل شهامتي، أرغمني ذلك الحقير أن أركع بين رجليه
المقوستين كأضلاع شاة هزيلة مضى عليها عام من القحط، ولكنني سأنتقم منه ، سأرد
الاعتبار لأسرتي التي كانت تفخر بي دائما.
أشد أنواع الانتقام فتكا والتي تتوارد إلى
ذهني دون انقطاع، سأعلقه من رجليه وأدع رأسه الخالي من الرحمة يجرجر على أرض تلك
الغرفة النتنة، أو سأفقأ عينيه وأقطع لسانه وأرميه في مكان عام. في تلك اللحظة
الممتعة الحافلة بأنواع الانتقام يرن هاتفي، ألعن في سري هذا المتصل الذي قطع
توارد أفكاري، إنه "مبارك"، الذي ليس له حظ من اسمه، دائم التجهم يشكو
ضيق الحال كلما جمعتنا الصدفة، إلا أنه كان قد قطع اتصاله بي منذ مدة ليست بالقصيرة، لازلت اذكر
هيأته بتفاصيلها الدقيقة، طول متوسط ، عضلات مفتولة ،أسنانه متناسقة كأنها مصنوعة
بعناية، شعره سبط ومموج قليلا، أنفه أطول
من اللازم، عينين بارزتين كعيني البومة..يبادرني بسؤاله، هل تذكرني؟ أنا مبارك،
وهل من الممكن أن أنساك أيها ....في سري، أريدك غدا الساعة الحادية عشر، في كامل
أناقتك، في الجانب الغربي لسوق العاصمة، لا تنسي أن تغرق نفسك بعطرك الذي عهدته
عندك، رخيص ولكنه يناسبك، يقولها مازحا، لقد بدى أنيقا وفي هيئة محترمة ، سبحان
مغير الأحوال.
ماذا يريد هذا ال....، لعله سبيل انتقامي، ابصق على يميني، رجل يصيح ،
هيييييه، ألا تراعي حرمة المسجد،قلت في نفسي، لقد صليت فيه كذا مرة وطلبت التوفيق
من الله، اعتقد أنه مؤسس على الباطل وإلا لكان الله منحني ما أريد، لا بأس لو بصقت
عليه حتى انتقم منه، لم أجبه، ليس لدي الوقت، الكثير من الأسئلة تتصارع في ذهني،
ماذا يريد هذا ال......
في الصباح الباكر ، عشرات الأطفال يمرون أمام المنزل، ينظرون إلي
جميعا، يضحكون، يجرون، ثم يضحكون ويضحكون، من لاشيء، ربما من هيئتي الساذجة، أعود
للغرفة ،أفتش في أغراضي عن شيء تركته من فترة، إنه غال جدا وثمين، بحثت وبحثت ولم
أجد شيئا، ارتديت ملابسي وخرجت قاصدا مكان اللقاء، الحادية عشر والربع، لم يظهر
مبارك بعد، اتصل به ،الهاتف مغلق، رسالة صوتية تقول: الرقم المطلوب مغلق، انظر في
كل الاتجاهات ، كل الاحتمالات مطروحة، ربما لم يشحن هاتفه جيدا أو ...، الحادية
عشر والنصف، أعود للمنزل ساخطا ناقما ، نفس الأطفال يعودون من جديد ،ينظرون إلي يضحكون
ويجرون ويتدافعون، أكتم غيظي، اللعنة عليكم أيها السفلة ، أتذكر انتقامي في تلك
اللحظة ، أبحث في مخيلتي عن أشد طريقة لأرد لي كرامتي المسلوبة تحت أقدام ذلك
المعتوه، أخيرا وضعت خطة محكمة، سأوقع به دون شك، سأحقق حلم عمري هذه المرة ، في
نفس اللحظة يدخل صديقي أحمد، على وجهه ابتسامة عريضة، لم أتجاوب معه، أخاف أن يؤجل
انتقامي هو الآخر، ينظر إلي بانتباه شديد، يبادرني قائلا، ما بالك؟. تبدو حزينا ، ابتسم
وتوكل على الله، في نفس اللحظة يتصل مبارك من جديد، أرفض الرد عليه، لقد كذب علي، أسرد
قصته على صديقي، يرن هاتفي، رسالة جديد تقول أنت لست محظوظ يا زميلي، لست محظوظ.