‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب. إظهار كافة الرسائل

السبت، 22 أكتوبر 2016

قصة قصيرة : لَسْتَ رَجُلاً


   
في تلك اللحظة الهادئة، اجتاحني ذلك الشعور المفاجئ، لم تكن لحظة مناسبة شيئا ما ، كانت مليئة بالتأمل ، لحظة لا وعي، سبات عميق ، شعور لا إرادي مبهر، كنت استحضر لحظات حاسمة مررت بها إبان تجربة فاشلة ،قاسية،لا أعرف كيف اقتحم ذلك الشعور المقيت سكوني النادر ذاك و في فترة خواء شعوري فريدة.
 استجمعت كل قواي العاطفية و كلماتي اللطيفة، الساحرة، رتبتها في ذهني بعناية، أنتظر اللحظة المناسبة لانقض عليها في وقت لا تملك فيها مناعة ضد شعوري الجارف، لكن تلك اللحظة لم تحن، على الأقل في ذلك التوقيت المشهود، أو ربما لم أجد القوة الكافية. لقد قال زميلي إني أضعف في اللحظات المناسبة دائما، وهكذا تفوتني الفرصة باستمرار، لقد قال لي ذات مرة ، أنت مستودع الكلمات العاطفية لأنك لا تقدر على البوح بها أبدا، لقد جرحني بعمق  في رجولتي، في كرامتي كعاشق.
 قررت أن أدخل في تلك العملية الانتحارية اللطيفة، انتظرت كالعادة على قارعة الطريق الأبدي الاعتيادي، مركزا على الاتجاه الذي سيطلع منه البدر، إنه بدر الصباح الباكر، المارة يرمقونني بنظرات باردة وغريبة، قلت في نفسي لعلهم لاحظوا وجودي في هذا المكان باستمرار، تجاهلتهم وركزت ناظري في اتجاه الشروق بثبات لا يلين، أكاد لا ترمش عيناي، لقد حزمت أمري ، سأمطرها بمكنونات قلبي التي باتت تأرقنى.
 في لحظة سهو لا إرادية، مر بي طيف عطرها الأخاذ، لقد تعودت عليه من كثرة ما لحقتها من مكان إلى آخر و بصمت قاسي مرْ.
 في تلك اللحظة بدأتْ جينات رجولتي في فوران شديد، ألحق بها؟ ستصدني، أأقول لها ؟ ستتجاهلني، ماذا أصنع؟ ، ضاعت في زحام بشري هادر ، لم أتبينها، لقد تاهت وتاه أملي، لقد فشلت، وعاودتني عبارات صديقي الحميم، أنت فاشل من هذه الناحية، قلبت هذه الكلمات في رأسي مئات المرات، عزمت على إثبات العكس في أول فرصة سانحة.
 في اليوم الموالي، وقفت في نفس المكان ، نفس المارة ونفس النظرات المستفسرة، وبعد برهة يغمرني ذلك الطيف الجميل، تنحنحت قليلا ، أستعد للكلام، لم تلتفت وكأنها لم تسمع صوتي على الرغم من قربها، قلت في نفسي لعلها لا تريدني، ويجب ألا أعرض نفسي للمهانة، كانت قد ابتعدت عدة أمتار، لم أجد نفسي إلا وأنا اندفع خلفها بعنف شديد، وقلت لها جملة واحدة، سيدتي ما اسمك ؟! هكذا دون مقدمات، أجابتني ، نعم !؟، شعرت بضعف لا يوصف، قلت مكررا : ما اسمك؟، ماذا تريد من إسمي؟، وابتسامة تعلو محياها البهي، لا فقط أراك كل يوم وأحببت أن أتعرف عليك، قالت بسرعة خاطفة، أعرف!، تعرفين!، تعرفين ماذا ؟ لا شيء، إسمي زينب، هل أعرف المناسبة؟ عقد لساني ولم اعرف بم أجيب ولا بم أمهد لكلامي، فقط اندفعت بفعل الهيجان الذي خلفه لدي كلامها، أنا أحبك، أحبك منذ بدأت تسلكين ذلك الطريق المرسوم في ذهنك بدقة متناهية ، أقصد في ذهني، الطريق من حيث يبدأ من طرف حيكم الجميل، انتهاءً بهذا المكان حيث سينتهي تعبي ،هذا ما يخبرني به شعوري، أنتِ من الآن من نصيب قلبي، هذه مفاجأة لك صحيح، ولكنني تعبت من الانتظار.

 نظرت إلي بعينين باردتين زائغتين وقالت بهدوء مريع، أعرف. قلت بنفاد صبر تعرفين ماذا؟ قالت : أعرف أنك لست رجلا هكذا استنتجت منذ اللحظة الأولى و أنا لا أحب الرجال غير القاطعين، وغابت في بحر بشر متلاطم، وبقيت غارقا في ذهول أشبه بالجنون.

السبت، 8 أكتوبر 2016

قصة قصيرة: السالك ولد خطري





* أي تشابه في الأسماء فهو محض صدفة

دخلت مريم مسرعة إلى غرفة النوع، كان وجهها جميلا كالقمر ، بفعل المواد التجميلية التي غطّته بها بطريقة متناسقة بحيث يستحيل ألا يفتتن بها أي رجل تلتقيه  ثم  قالت: كل الترتيبات باتت جاهزة و أهل العريس وذويه اتصلوا علي ليخبروني أنهم في الطريق إلينا في الموضوع الذي تناقشنا فيه ليلة الجمعة الماضية لمّا كنا نقضي عطلتنا في واد الناقة، ألا تذكره؟ هيا تجهز بسرعة لكي تستقبل الضيوف الرجال في الصالون المخصص لهم وأنا سأستقبل السيدات في الصالون المخصص لهن، لكن، لحد الساعة لم يأت محمود السائق ، لقد أرسلته إلى سوق " كبتال " ليجلب لي ملحفتي من عند سمِيَّتي مريم.
أطلق محمد الأمين طلقتين في الهواء ليوقف المهربين ، لأنه تأكد أنهم ليسوا أولائك الذين يعرفهم جيدا في فيافي " أكجوجت " لطالما اتفقوا جميعا على نقطة التجمع، فليس الوقت ملائم لمثل هكذا أمور غير مبرمجة، فالتحضير للعرس في مراحله النهائية وهذا ما لم يقبل به القائد. يجب أن تكون كل الأمور مرتبة تماما، بحيث لا يتعكر صفو القائد، فهو مشغول بالتحضير لمستقبل ابنته والترتيب لزفافها مع أحد أبناء أسرة أهل الركاد ، الأسرة الغنية عن التعريف والتي تملك شركات متعددة للأشغال العامة.
دخلت عليه مريم وهو لا يزال متجهم الوجه، لم يستعد بتاتا للضيوف، قالت والهلع باد عليها: ما بالك!، ماذا تنتظر؟ الوقت يداهمنا ، أسرع. كان جوابه صادما وغير متوقع، قال وبكل لامبالاة، اهتمي أنت بالموضوع ورتبي كل شيء، أوافق على كل ما ستقومون به، تعرفين ذلك جيدا. أشعل سيجارة مالبورو واستلقى على قفاه وشرد بعيدا بعيدا جدا، يبدو حزينا أو أن هناك ما يشغله لكنه يرفض الحديث. ضربت كفيها ببعضهم البعض متحسرة ثم خرجت إلى الضيوف فالوقت لا يسمح بكثير من الجدال.
بدأت القصة التي جرت الليلة الماضية تعتمل في مخيلته من جديد، يحرك يده اليمنى  و كأنه يرى وجه يده وقفاها لأول مرة، كان كمن يحدث نفسه، كيف، لدي إبنة على وشك أن تتزوج، كيف إذا بي لا أقدر على ذلك، ما بال مريم لم تقل أي شيء، فهي تعلم ما أعانيه كل ليلة، أتراها تخونني؟ غير معقول ما يجري !، أنا لا ألبي لها رغبتها ومع ذلك لا تعترض، لا شك أن لديها ما يعوضها عن إخفاقي، يجب أن أرى ذلك بنفسي. رنّ هاتف السامسونج نوت 7 عن يمينه، ثم قال ماذا يريد هذا الغبي في هذا الوقت، ألا يعرف أنني مشغول، تَردد ، ثم بدون مقدمات، نعم ، ماذا هناك؟ من الطرف الآخر صوت مرتعش يلقي في وجهه الخبر، سيدي مجموعة من الشباب تتظاهر الآن أمام مقر المفوضية ، ماذا نفعل ؟، إنهم يحملون لافتات كتب عليها يسقط الجنرال السالك ولد خطري قائد الشرطة، يسقط  جنرال المخدرات، آسف سيدي الجنرال على هذه العبارات ولكنني أردت أن أنقل لك ما يجري بحذافيره حتى  تكون على علم تام بالموضوع، ليس هذا وحده إنهم يطالبون بإقالتك و سجنك آسف مرة أخرى يا سيدي. إسمع لا تتحركوا آنا قادم الآن.
في التاسعة و ثلاثة وعشرون دقيقة بالضبط يأتي اتصال غير متوقع، ينظر إلى الهاتف باستغراب، أهذا وقتك أنت الآخر، لطالما جلبت لي المتاعب، لا تستطيع أن تنجز أي مهمة بمفردك مع أن لديك كل الصلاحيات التي يمكن أن تحتاجها، كان يحدث نفسه فيما الهاتف يواصل الرنين. نعم محمد الأمين ماذا هناك الآن؟ قصد تلك " الآن " لأنه يعرف أن الأمر غير طبيعي، جاء الصوت من بعيد، سيدي الجنرال هناك مجموعة اشتبهنا في أمرها ، لكننا لم نستطع إمساكها، لقد اعتقدت أنها المجموعة المنتظرة، لكن يبدو الأمر غير ذلك، آلو ، آلو ..... يتقطع الصوت ثم يختفي محمد الامين من على شاشة السامسونج نوت 7 ،  الهاتف الذي تتصلون به خارج التغطية، جاء الرد واضحا جدا ، ماذا الآن أهذا وقته، يتصل بالهاتف اللاسلكي، ماذا! مغلق هو الآخر!، يرمي الهاتف بحنق فوق المقعد المجاور، أخذ الهاتف بسرعة، طرأت علي فكرة، إسمع أنت اصرف أولائك الشباب بأي شكل لا أريد لهم أثرا، لقد انشغلت قليلا و سأمر عليكم حالما أنتهي من موضوع طارئ.
أخذ يمرر إبهامه على شاشة الهاتف، يبحث عن رقم محدد، يتصل ، سلمى أنت في تفرغ زينة، جهزي الصالون أنا قادم، بعد لحظات يفتح الصالون ، رائحة عطر باريسي تستقبلك قبل أن تفتح باب تلك الشقة الموجودة في الطابق الثالث من شقق السالمية المفروشة في منطقة " أَهْ نُورْ ".
خرجت سيارة تويوتا يابانية تحمل خمسين عنصر شرطة مدججين بعدتهم القمعية، نزل القائد وبادر قائلا: اذهبوا من هنا ، لا نريد استعمال القوة الآن.
تتصل مريم، يتجاهلها المرة الأولى، تتصل مرة أخرى، يرد ، يأتيه صوت غاضب يسأل بعنف مبالغ فيه،  أين أنت؟، الضيوف يسألون عنك، ما الذي يجري؟، لم يرد، أنهى المكالمة، كم تجيد هذه الحية إفساد اللحظات المميزة، ينادي ، سلمى أين أنت ؟
يرن الهاتف من جديد، لم  يلتفت،  كم أنت مقرفة يا مريم ، يلعن في نفسه ، هذه الحية، يواصل الهاتف الرنين، يهم بقطع الإتصال، آه أنت أخيرا، جاءه صوت مبحوح ، ممزوج بهلع وخوف، سيدي لقد داهمتنا شرطة مكافحة المخدرات، عليك أن تتصرف، انتهت المكالمة فجأة يعيد الإتصال ، الهاتف مغلق، في نفس اللحظة ، اتصال آخر، يا لكم من جبناء، لا تستطيعون حل مشكلة لوحدكم، يرد دون إعطاء أي فرصة للمتصل للحديث ماهي المشكلة ، سيدي لقد فرقنا المتظاهرين بالقوة، أحدهم كسرت ذراعه، الآخر مغمى عليه و نقل الثالث إلى المستشفى و يبدو أنه.....ثم سكت.


الخميس، 28 يناير 2016

الخـــــــــــــــــــــــــلاص

هذه القصة منشورة في موقع ثقافات هنا





وقف في غرفته وحيدا ، شاخصا بناظريه باتجاه الصورة العتيقة ، المثبتة على جدار غرفته الشمالي، تثاءب ، تمطى، ثم قال ، لو وهبتني قوة أتغلب بها على عبادك المارقين ، الخارجين عن طاعتك لحوّلت هذه الأرض التعيسة الى جنة دنيوية، هبني قوة أقهرهم بها حتى يتبعون وحيك المقدس، ثم جثم على ركبتيه وأعاد نفس الدعاء حرفيا.
كان يرتدي " فانيلته " القديمة نفسها، إنها مباركة ، بل جزءا من طقوسه اليومية التي لا تتم بدونها. بعد إتمام الطقوس كانت الدموع تنهمر من عينيه خشوعا، عاد لنومه ففانيلته المقدسة تمكنه من نوم هادئ وفي رعاية الرب.
استيقظ مبكرا فمجموعة المارقين تحتاج لقوة جبارة تلك التي يستمدها من جسد الرب الواقف دوما في تلك الصورة المقدسة، مستعدا لتلبية نداء عبده الفقير الصالح.
الخطوة الأولى تتمثل في القضاء فكريا على معتقدات الفساق الوثنية، نهض، أخذ ورقة وقلم وخط بأنامله التي تقطر وحيا طازجا أول سطر في المسيرة العظيمة ( إليكم أيها الكفرة، اعلموا أنكم قد ضللتم وسلكتم طريق جهنم ، إني آت إليكم لأخلصكم من ربقة الشيطان الرجيم....فلتستعدوا إني قادم إليكم..)، ثم لف الورقة نصفين متساويين بطريقة طقوسية جميلة بانتظار بقية الوحي.
وضع الورقة خلف صورة الرب المعلقة على الجدار لتكتسي قدسية مضاعفة، وجلس يتأمل!، ثم أخذت أسئلة كثيرة تدور في رأسه ( كيف لهؤلاء أن يفتروا على الله؟ ، كيف لهم يا ربي أن يكذبوا عليك؟ ، اللهم ارزقني قوة كافية لأخلص عبادك المستضعفين، الظلم والقهر والتجبر، هل هذا معقول؟ ، ثم عدل من جلسته ونظر الى سماء غرفته الضيقة وجال بناظريه كثيرا كمن ينتظر شيئا، أخيرا أعاد النظر إلى الصورة ، إلى ربه المتمثل في تلك الصورة التي طالما أعانته بركتها، لقد اعتبرها ربا مخلصا منذ تلك اللحظة التاريخية التي لا تنسى، إنه يحتفظ بها لنفسه فهي علامة الرضى وهو شيء بينه وبين ربه.
عاد و أخذ الورقة وفتحها بهدوء تام كمن يحافظ على شيء بالي من التمزق عند أول لمسة، ثم أفرج عن ضحكة عريضة حتى بانت أسنان فكيه بشكل كامل، قال: تلك هي اللحظة المنتظرة، وبدأ يكتب ( تعرفون أن الرب لا يمكن أن يظلم ، إنه عادل تماما، لقد خلقنا لنعبده، لا أن يَعْبُد بعضنا بعضا، لقد قسمنا أشكالا وألوانا، ورسم لنا طريقا تقرب إليه، هكذا فهمت من ربي، فهل يمكن أن أكون مخطئا؟، أما هو فلا يخطئ، بل هو الصواب والصح بعينه، هذه أول الوصايا وستأتيكم البقية بالترتيب ولن تنقطع عنكم حتى تهتدوا، إني أخشى أن يصيبكم غضبٌ من ربكم بسبب افتراءكم وكذبكم).
أعاد الورقة خلف الصورة لتكتسب قدسية إضافية، فهي موجهة لقوم لا يفقهون. بعد وقت وجيز أخذ الورقة وفتحها بالطريقة عينها، وأعاد قراءتها بهدوء تام ، وعينيه يشع منهما بريق مضيئ انعكس عليهما من النور الذي ينبعث من الورقة بين يديه. انتهى من القراءة ، طوى الورقة ، ثم جلب ظرفا أنيقا ووضعها داخله بعناية شديدة وكتب عليه، إلى عباد الله الضالين،،،إليكم الخلاص وكتب على وجه الظرف الآخر " العبد الصالح ".
نزل السلم بهدوء ، بعث الرسالة عبر البريد، ثم عاد ، جلس في غرفته منتظرا ردة الفعل التي ستحدثها تلك الرسالة المقدسة. كانت جريدة " الضمير الحي" الوحيدة التي تصدر في اليوم الموالي، لقد اختارها عن قصد، هي الأكثر قراءة، والأكثر نضجا والأكثر توزيعا في الأماكن حيث يكثر الظلم باسم الله ، البريء طبعا من كل ما ينسب إليه زورا وبهتانا.
أزاح نظارته السميكة ، وضعها على منضدة الكتب بجانبه، بدأ يفرك عينيه الدامعتين باستمرار، يتمنى في أعماق نفسه أن تكون خطوة موفقة تلك التي بدأ بها مسيرة الخلاص، أو مسيرة النقاء كما يحلو له أن يسميها.
فتح نافذته المطلة على الشارع العام كعادته كل صباح ، أغلق النافذة ، خرج ووقف في الشرفة، هناك ضجيج قوي آت من بعيد، استمع بإنصات شديد، بدأ الصوت يقترب شيئا فشيئا، والكلمات تأخذ طريقها إلى مسامعه بشكل أوضح، ثم انبثقت جموع هائلة كالموج من الجهة المقابلة له تماما، كان الناس يحملون صورا مكبرة لم تكن من القرب بحيث يتبينها، لكن الكلمات تقول، أقتلوا الكافر ، اقتلوا الزنديق، نحن أهل الحق، انت الضال الفاسق، دلف إلى الداخل ، أغلق باب غرفته المطل على الشرفة بإحكام شديد وجثم أمام تلك الصورة وقال: يا رب لقد بدأت المعركة فانصرني على القوم الضالين، انت القوي، انت القادر، اني أتخيل صورتك النقية التي تجلت لنبيك الكليم ليتغلب على أعداء الإيمان.

الخميس، 17 سبتمبر 2015

رحلة موازية


كانت ليلة جميلة تُحيلها نسمات الجو الخريفي إلى جنة دنيوية كما كان يقول صديقي دائما رغم اعتراض شلة الأصدقاء على هذا الوصف الذي يعتبرونه نوعا من الإلحاد، في نظرة سطحية تنم عن قلة تعليم بادية، فالجنة بالنبة لهم واحدة وهي تلك التي ينالها المتقين بمجرد أن يختفوا من عالمنا المحسوس إلى العالمي الخفي.
  حبات الرمل تتطاير في حركة آلية وبلورات حصوية تتجمع لتتناثر من جديد في مشهد رائع يتشكل مع طلوع فجر يوم سبت خريفي جميل.
أربع أضلاع، ثلاثة بشرية و آخر حديدي صامت يصدر أزيزا ممزوجا بهدير قوي بفعل احتكاك الرياح بالجسم الخارجي للباص وبسرعته التي تقارب المائة وعشر كيلومترات في الساعة، أما الاضلاع الثلاثة  الباقية فسأصفهم لك بتفصيل ممل جداً.
قبل أن سترسل دعني أقول لك إنني كنت منغمسا وبعنف بين دفتي رواية غابرييل جارسيا ماركيز " ذاكرة غانياتي الحزينات "  التي تحكي مغامرات بطلها الغرامية الكثيرة والتي كنت ساعتها لا أزال أقرأ الفصل الأول منها ، لكن نظرات الضلع الشمالي الفضولية ومحاولة حشر أنفه بين دفتي الرواية حملتي إلى أن قلت له " لدي واي فاي، أتريد أن تستعمله ؟ " أجاب أن نعم ! شَغلته بهاتفه والوايف فاي خاصتي ثم عدت لأحضان روايتي التي أريد أن أخلو بها لنفسي لأستمتع بالتقلب بين أحضانها الدافئة اللذيذة. لكن مهلا، لم تعرفوا الشاب بعد ، و أنا لا أمانع ذلك فهو الضلع الشمالي من مربع احتضنني طيل رحلة طويلة تخللتها أحداث غريبة.
كان شابا دون العشرين من عمره أنفه أطول قليلا من اللازم و بوجنتين غائرتين قليلا ، عينان تميلان إلى الاصفرار، وبلكنة من ذلك النوع الذي يفتقد صاحبة متعة نطق الراء بشكل سليم مع مخارج أحرف بحاجة لتصويب بسيط، لكنه مع هذا كله كثير الكلام والذي يخرج دائما من بين أسنانه المتباعدة في صيغة أسئلة!!
أما الضلع الأخر فهو عند ظهري مباشرة، زنجي سواده حالك نوعا ما ، تبدو أسنانه واضحة أثناء الكلام، ومنشغل دائما في هاتفه الذكي، لكن المثير حقا هو فرنسيته الإفريقية بامتياز والتي ينفر منها الراء بشكل ملحوظ بحيث تظن أن كل ما ينطقه هو  " راءات "  جافة مثيرة للشفقة، لكن الأكثر إثارة من ذلك هو رائحة عطره المميزة التي قد تحسبها خلطة إفريقية لنباتات استوائية مجهولة وغريبة ، أَراد فجأة دون سابق إنذار نثرها في مساحة ضيقة هي مساحة الباص المستطيلة بحيث  أحالت الركاب الخمسة عشر إلى جوقة موسيقية تحيي حفلة  بعطاس متواصل لم تنقطع إلا بعد تشغيل المكيف الذي كان السائق قد أوقفه حفاظا على البنزين.
كانت أمامي مباشرة سيدة ثلاثينية تقريبا تخيلتها إحدى بطلات رواية غابرييل غارسيا ماركيز " ذاكرة غانياتي الحزينات " ، لا تزال شابة تحتفظ بكل مفاتنها في حالة تأهب واستعداد برغم أولادها الثلاثة الذين يتصارعون بينهم كما يفعل أولاد الهرّة في فترة نشاط صباحي بعد ليلة مليئة بالمواء بفعل الجوع أو أي عامل مغيظ آخر، و كانت هي تستجيب بطريقة آلية إما بالضرب أو التهديد أو بنظرة حادة يفهمها الأولاد جميعا، إلا ذلك الرضيع الذي تلقمه  المرضع الجاهز " بيبروه " كلما أصدر صوتا دون أن تعرف حتى إن كان متألما أم عطشا أم ....!
في ما بدى لي أنها كانت تفعل ذلك كله للإستمتاع بتجاذب أطراف الحديث مع الركاب ، خاصة ذلك الرجل القابع في الخلف تماما والذي يصدر صوتا يميل قليلا إلى الأصوات النسائية الناعمة والذي أجزم الآن أنه كان ليكون مخنثا لولا القدرة الإلهية التي جعلته رجلا بصوت نسائي وعبارات ذات دلالة واضحة على تحول وقف في نصف الطريق.

كانت السيدة الثلاثينية  ذات بشرة نضرة و ملمس يدين ناعم وبغمازتين جميلتين في خديها المتوردين و أنف صغير بفتحتين تخالهما غير متساويتين، و شعر قد حظي باهتمام بالغ وحكم علي أنا الجالس عند ظهرها مباشرة أن أحظي بلمسات ناعمة على اليدين تبدو مقصودة إلى حد بعيد ، و أن أحاط بأنفاس لاهثة لفتاة في تجربتها الغرامية  الأولى، لا أريد الإدعاء أني تفاديتها ، فلقد كانت وضعيتي مزرية إلى حد بعيد ، لقد كنت جالسا على مقعد صغير ترك أثرا سيئا في الجزء الذي حَظيَّ به مني، ولم يكن باستطاعتي أن التفت لأن ركبتي كانتا مضغوطتين بشكل يجلني كالسجين في وضعية أخف قليلا من وضعية القرفصاء لكن بلا حركة تقريبا. بادرتني فجأة بالتفاتة عنيفة مغلفة بضحكة دلال وغنج  حتى أنني أجزم أنه لم يبق بين وجهينا إلا سنتيمترات قليلة جدا ، وقالت ، هل أنت نائم ؟ لم تنتظر جوابا قطُّ! بل أردفت وفي حديث مسترسل لم تكن تُرِد له أن ينتهي، أنا لا أنام في السفر و أحب أن أتبادل أطراف الحديث حتى أصل ثم تعمدت بخبث أن تمرر أناملها الدافئة فوق يدي الممسكة بالمقبض الحديدي المثبت على قفى مقعدها كما هو حال كل المقاعد، ثم قالت إنكم تفسدون علينا هذا السفر بسكوتكم المطبق قبل أن يقاطعها صاحب صوت رقيق قادم من آخر الباص يشبه صوتها تماما، عرفت في ما بعد أنه يسمى " سيدي " توقف عداد تحوله الجنسي بحيث لم يعد رجلا ولم يصل لأسمى درجة التحول بأن يصير أنثى، وصار بإمكانك يا صديقي أن تضيفه للطبقة الوسطى الحديثة النشأة.  

الثلاثاء، 29 يوليو 2014

كيف قرأتُ << تيرانجا >> !

غلاف رواية تيرانجا


و أنت تقرأ تلك الرواية الممتعة، لا شك أنك ستمسك رأسك بين راحتي يديك ، أو حتى تذرف الدموع من هول تلك الفظائع التي ستقول لنفسك أنها يستحيل أن تحدث بذلك الشكل، لكنني أؤكد لك أن بعضها إن لم يكن جلها قد وقع بالفعل، وما أثار إعجابي هو الكيفية التي جعلنا الكاتب ننصهر بها في تلك الأحداث بحيث استطاعت التأثير فينا إلى تلك الدرجة.
<<  تيرانجا >> تلك الرواية التي تدور أحداثها في حقبة زمنية من التاريخ الموريتاني القريب - الأليم – استطاعت فور وصولها للسوق الموريتانية أن تزاحم أفضل المؤلفات و أن تجد لها مكانا ثابتا في المكتبات المنزلية، كيف لا وهي تضع بين أيدينا تاريخا طُمس و يراد لنا ألا نعرف عنه أي شيء.
 <<  تيرانجا >> التي بمجرد أن تبدأ في قراءتها تشدك بعنف بحيث تلتهم صفحاتها بنهم شديد الواحدة تلو الأخرى ، تأخذك أحداثها بين مشهد و آخر، تارة تضحك و أخرى تبكي، و أخرى تجد نفسك عاجزا عن المتابعة حتى تسترد جزءا من روحك التي فاضت و أنت تتصور كيف فاضت روح ذلك الشيخ الذي سقط تحت ضربات الغوغاء بعصيهم الكئيبة وبناته اللائي تحتوينه محاولات حمايته من الروح الشيطانية التي ركبت أولائك الأوغاد. أم ذلك الطفل البريء الذي رمي في حوض الماء وتلك الأسرة الذليلة التي لاتجد من القوة ما تستطيع به إنقاذه من مصير محتوم على أيدي لا ترحكم يحركها نهم للدماء لا يتوقف.
كم هي قاسية وممتعة في نفس الوقت تلك الرواية، رواية تستطيع أن تدخلك نوبة من الضحك الهيستيري، فحين تتخيل وضع سائق وسيلة النقل العمومية تلك " الباص " وهو يحاول أن يجنب نفسه مصيرا محتوما ، حينما يجيب الرجل الذي اتجه نحوه ( حَرْطًانِي حكْ ، أَصِلْ حَرْطَانِي ) لإثبات موريتانيته التي لا نقاش فيها  ، في ذلك الموقف بالذات ستضحك رغم تلك المآسي التي عيَّشتْكَها الأحداث المتداخلة.
تبقى رواية <<  تيرانجا >> الوحيدة التي تجرأت على الغوص في موضوع خطير وشائك ولا تزال ارتداداته تخلق الكثير من الإحتكاكات بين ضحايا تلك الأحداث و السلطات الموريتانية ولم يخشى الكاتب من إثارة موضوع لا يزال الخوف يمنع الكثير ممن عايشوه أن يقدموا شهاداتهم حوله مهما كانت درجة حيادية تلك الشهادات ، ليقدمها لنا الكاتب في شكل رواية تعتبر من أروع ما كتب في هذا الصنف من الأدب حسب وجهة نظري المتواضعة.

رأيكم يهمني

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

blogtopsites'