و أنا الآن أكتب هذه الحروف تجول في خاطري
مشاهد شتى، ولا أعرف من أيها أبدأ ، لكن لإنتشار هذه الحمى بشكل بشع أود لو أعرج
قليلا على ماضي قريب جدا، قبل شهر تقريبا أصيب كل أو جل أفراد العائلة بهذه الحمى
وكنت شاهدا على ما عرفه مستشفى الصداقة من ازدحام وتدافع ، ثم إن المرضى ملقون في
فناء الانتظار للحالات المستعجلة كما تلقى قناني الكوكاكولا أو علب السجائر في
الشوارع.
الليلة الماضية جاء دوري من حمى عرفات،
فضلت ألا أذهب البتة إلى مستشفى الصداقة فأنا أعرف الوضع هناك، ولقد وجدت من يثبت
لي ذلك في مستوصف عرفات. في حدود الثامنة والنصف ذهبت إلى مستوصف عرفات فكانت الوضعية
كالتالي:
تضاعف ثمن تذكرة الدخول إلى 300 أوقية بدل
20 أوقية ( مطبقة في كل المستوصفات)، صاحب التذاكر يجلس على بعد أمتار من قاعة
الطبيب المناوب الوحيد و عندما تسأل عنه يتطوع أحد المواطنين ليدلك عليه، بدل أن
يكون متواجدا في المكان المحدد، قلت له لما مد لي يده بالتذكرة، هل كلما كثرت الأمراض
زدتم سعر تذكرة الدخول و هذا مستوصف وليس مستشفى كبير، أجاب بوجه عابس دون كلمة
واحدة.
للأمانة كان الشاب المناوب في غاية اللباقة
، وصفت له الأعراض فكتب على الفور كلمات غير مقروءة في ورقة بيضاء ، وقال اشتري
هذه الحقنة من عيادة المستوصف وانتظر دورك.
هنا مربط الفرص، هنا التوقيت الذي سأطلع
فيه على بشاعة مستوصف عرفات، العيادة التي سنشتري منها الدواء في غرفة وسخة جدا وهي
عبارة عن دولاب حديد قديم مفتوح على الدوام، فلا تحدثني بعدها عن وضع الأدوية في
أماكن بدرجات حرارة ملائمة ولا أي من تلك الإجراءات المصاحبة لحفظ الأدوية، الغرفة
بها أسرة ملقى عليها العديد من المرضى بحيث أن المريض يجلس عند رأسه مريض آخر في
سباق مع بقية المرضى لكي يحجز السرير وبمجرد أن ينزل المريض الاول يحل الثاني
مكانه، أعود و أكرر أن هذه القاعة الأولي والتي قضيت فترة بها أحاول فقط اقتناء
الحقنة، وأشير إلى أن القاعة كانت تفوح منها رائحة نتنة جدا.
اقتنيت الحقن وبدأت البحث عن من يغرزها في
جسمي الهش ساعتها، لكن المحزن حقا أنه في هذا المستوصف الذي يقع في عرفات حيث
تنتشر الحمى، لا توجد به إلا ممرضة اجتماعية واحدة، وقد تحول وجهها بفعل هذه
الوضعية إلى لوحة رخيصة متداخلة الألوان ، ومن السهل عليها توجيه عبارات نابية
للمرضى كما حدث للستيني ( بعمر 60 سنة تقريبا ) الذي نهرته لما سألها إن كانت هي
الممرضة.
انتقلت للغرفة الثانية لأحظى بسرير استلقي
عليه ، وبدأت دوري من السباق وانتظار أن يفضى أحد الأسرّة ، وما إن رفع المريض
قبلي جنبه حتى جلست مكانه. كانت هذه الغرفة كسابقتها تحتوى ثلاث أسرة فقط، وحتى
هذه الأسرّة الثلاثة ملقا عليها بقايا الأدوية ( العلب الفارغة ، حافظات الحقن ،
الكتّان و القفازات البلاستيكية ) ووصل الأمر لأن التصقت قطع الكتاب على الأسرّة
ويمكن أن تلتصق بك إحداها إن لم تنظف (أنتَ المريض) السرير قبل الإستلقاء.
كانت الغرفة الثانية في غاية البشاعة ( الفيديو والصور المرفقة ) بحيث تبدو أنها لم تكنس من
يومين تقريبا ، علب الحقن تتدحرج أمام قدميك وأنت في طريقك للسرير كما لو كنت تضرب
كرة قدم ضربا خفيفا، قنينة مياه معدنية صغيرة تحوي المعقم ممتلئة إلى الثلث موجودة
فوق منضدة تبعد عني متر ونصف تقريبا ويمكن أن تنقلب و يسيل المعقم على أرض الغرفة
المتسخة أصلا في أي لحظة.
هنا وللأمانة قد أجد مبررا للممرضة
الإجتماعية المناوبة ( أشير هنا أنها لا تضع كمامة ولا قفازات أثناء المعالجة) ،
فهي وحيدة في مواجهة أفواج مرضى لا يهدئون تنفر منهم روائح كريهة، فحتى مستشفى الصداقة
بعرفات صار يقول صراحة للمواطنين اذهبوا لأماكن أخرى فليس لدينا مكانا لعلاجكم ،
هذا ما رواه المرضى القادمون منه.
المسئولية هنا تتحملها وزارة الصحة وعلى
رأسها الوزير الفاشل " ولد جلفون " و النظام العسكري الحاكم من وراءه،
فهو نظام يبرع فقط في النهب ( صحيفة لوموند الفرنسية )
في حين يموت مواطنيه وتتفشى بينهم الأوبئة
والأمراض بسبب فشله المتواصل.