لطالما كانت الدول
تبنى على العدل والمساواة والديمقراطية واحترام القانون و ما إلى ذلك من المعايير
الضروية للعيش داخل مجتمعات منسجمة و متصالحة مع ذاتها، بل إن الجميع يسعى لترسيخ
مثل هذه المميزات لأن توطيدها فيه مصلحة للجميع. ففهم ذلك و تقبل الآخر يصل بنا
إلى دولة مدنية ديمقراطية لا تقوم على مجموعة من الأساطير والأوهام الفوقية
البائدة و ما ينجم عن ذلك من تراتبية مقيتة ستكون الدولة كهدف منشود هي الضحية
الأولى لها.
لكننا في الحقية نمتاز
ككيان يحاول أن يكون دولة بالعديد من الصفات السلبية، و لعل أبرزها أننا لم نستوعب
بعد معنى الدولة، إننا نعيش في عصر جاهلي تحكمه قوانين قبلية و مصلحية و تحالفات
بدائية تضر أكثر مما تنفع، فحصلنا على " شبه دولة " يفصلها أحدنا على
مقاسه، و مقاس أسرته ثم قبيلته والزوائد العالقة بها.
لقد بدأت الدراسة و
كانت هناك مادة " التربية المدنية" ولعلها لا تزال لكن واقع مخرجات
التعليم اليوم لا يوحي بذلك؛ فتفكير جلهم منصب حول قبيلته و أبناء عمومته لا أكثر.
إننا كمجتمع ساع
للتمتع بمزايا الدولة يلزمنا محاولة تمثيل ذلك في سلوكنا اليومي قبل ترسيخه ليكون
جزءاً من قناعاتنا وسيكون نتيجة ذلك التضحية بالقرابة و المعرفة وتغليب جانب المصلحة العامة على تلك الضيقة.
ليست المطالب الفئوية – و إن كانت نتيجة اللاعدل
والغبن المسيطر - خدمة للدولة المدنية نهائيا، خاصة حين تكون تلك المطالب تهدف
بالذات لتبوؤ نفس مقعد المفسدين والعنصريين، فتغدو ليست إلا مطالب من أجل الفساد و
المساهمة فيه و المطالب بها ليس إلا شخصا مريضا ومقززا لا يرى أبعد من أنفه، وساعتها
لن تكون هناك دولة ولن يتغير الوضع بل سيتعزز بفعل الجشع و حب الامتلاك الذي نعاني
منه الآن و ستضيع الحقوق و يتأزم الوضع أكثر. إن الدولة كيان يسمو فوق ذلك كله،
لذلك اخدم قضيتك من أجل موريتانيا، ولا تخدمها لتكون مثل من كان السبب فيها، غير
ذلك تناقض و صاحبه معقد ذو نظرة قاصرة و
أفق فئوي ضيق.
أعود لأؤكد حاجتنا
الماسة لدراسة مادة التربية المدنية و
بشكل يجعلها إحدى أهم المواد المدروسة مع استخدام ضوابط صارمة يجعل عدم حيازة
المعدل فيها معيقا للتجاوز لتترسخ مبادئ المساواة والحقوق قبل كل شيء ، فالناظر إلى
المفاهيم المجتمعية و في لغتنا المحكية يدرك أن السائد هو منطق الغابة والجهل
والمصلحة الآنية، فأصبحنا لا ننتج فردا مساهما في التطور المنشود، بل شخصا معيباً
يعمل بجدارة لأسرته وقبيلته لا أكثر، فاجترار أمثال " حسانية " من قبيل
(ال تول شي ظاگو، أو كأن يقول أحدنا " افلان ذاك اعين يغير بلا فايدة " )
ليست إلا انعكاسا صارخا للتخلف و الانحطاط
إلى الهاوية الذي يتعزز يوميا، إن هذه " الأمثال " تصب مباشرة في تغييب معنى الإلتزام تجاه وطن يجب
أن يسمو فوق المصلحة الذاتية و الآنية الضيقة.
لقد طغت في الفترة
الأخيرة مجموعة من التعيينات تتكرر أسبوعيا، و التي يغلب عليها طابع القرابة
والجهة و النفوذ - دون الخوض في جانب الفئة ، المفسدين لا فئة لهم - بحيث لا يخلو منها يوم خميس تقريبا، تصب في
أغلبها في نفس الاتجاه، و يغيب عنها طابع الاختصاص، فلا الوزير مختص و لا الامين
العام ولا المدير، كلها تعيينات بوساطات نفعية ضيقة تأخذ القرابة و المعرفة سببا
لها، بل إنها أسر معينة تتوارث مناصب كأن الدولة ليست إلا عزبة ملكا لها تتقافز
على أهم مناصبها كتقافز القردة على قمم واحة نخيل.
ولا يغيب في هذا الإطار الاشارة إلى ما سيتحمله
المجتمع من ويلات جراء هذه التعيينات المصلحية، فلا يستطيع غير الخبير في مجال
الغاز أن تكون له قيمة مضافة في مجال عمله. كما أن الشخص المعين بإحدى الطرق
الملتوية لن يكون همه تقديم إضافة بل كيف يرضى من كان السبب في تعيينه (رد
الجميل)، كيف لا؟!، و هذا المنصب غنيمة وقعت عليها عينه و لا يستطيع أحد ردعه فهو
بتوصية جنرال أو نافذ فاسد (دون الحديث عن فئته).
أخيرا، الدول التي لا
تزال تحتكر فيها الأراضي باسم القبائل و تعطل مصالحها لأجل هذا الشيخ المتخلف أو
ذاك، أو حتى تقدم لهم هدايا و رواتب بسبب القاب وهمية، حري بها أن يستحي القائمون
عليها و يشعرون بالخزي، لأنهم يجنون على أجيال لا دخل لها في واقعنا المعيب.