صورة تخدم النص |
الوحدة الوطنية ليست أغنية تافهة
قضية وحدث هما الشيئان البارزان الذان يحولان دون الوصول إلى حالة
اجتماعية مستقرة غير البريق اللماع الذي يغطي الإحتقان الفئوي المتصاعد، ذانك
الشيئان هما قضية العبودية ومخلفاتها البادية للعيان وأحداث 1989 الأليمة التي على
الرغم من محاولة التسوية بخصوصها لا تزال تتفاعل وتتصاعد تظهر وتخبو بين الفينة
والأخرى.
ما أريد الحديث عنه عبر هذه الحروف ليس القضياتان من حيث تفاصيلهما
الدقيقة ، إنما انعكاساتهما أو مخلفاتهما على وضعية الوحدة الوطنية موضوع الحديث في الفترة الأخيرة، لكن الحديث
عنها (أي الوحدة الوطنية) يتطلب
تقديم تعريف موجز لها، فهي مسألة ملحة و
ليست أغنية يتغنى بها مجموعة من الأطفال يلقحون في منازلهم عن وعي أو لا وعي ما
ينافيها تماما، فالأطفال الذين يسمعون يوميا عبارات جارحة أو عبارات تنقيص من قيمة
الإنسان من قبيل (امعيلم، آزناكي، كويري ، حريطاني ، "زنجي"، ، بيظاني ،
زاوي... ) لن تتمكن المدرسة من غرس روح المواطنة في مخيلاتهم البريئة- هذا إن كانت تسعى في ذلك - ،
لأنه ببساطة شديدة لا يمكن مقارنة تأثير جو الأسرة التي يقضي فيها الأطفال جل
أوقاتهم مع وقت المدرسة القليل جدا، ناهيك عن أن قدوة الأطفال هم آبائهم و أمهاتهم
وبالتالي نحن بحاجة إلى عمل جبار للتغيير من تلك النظرة الدونية، أعود لموضوع
تعريف الوحدة الوطنية لأقول أنها عبارة عن " مساواة في الحقوق والواجبات ،
والإلتفاف حول هدف أسمى هو الدولة، والإبتعاد عن التحزبات الجزئية التي تفت من عضد
التآخي والتعاون،و وضع الجميع على خط انطلاق واحد يسمح لهم بالتنافس بكل
مسؤولية".
أهم و أخطر قضية متداولة اليوم هي موضوع العبودية ومخلفاتها الكارثية
( الغبن، التهميش، اللامساواة ...) إذ
تخلق حراكا على مختلف الصعد ، لكن السبب الأبرز لعودتها إلى الواجهة حسب رأيي –
علما أنها لم تخب تماما – هو حراك منظة إيرا الحقوقية المدافعة عن المستعبدين،
لتتوالى ردود فعل كثيرة مستنكرة ومستهجنة للخطاب الإيراوي "المتطرف" هذا الخطاب الذي كان له
الأثر البارز حسب الكثيرين لتهديد الوحدة الوطنية
لاحتواءه على عبارات شديدة اللهجة موجهة لعنصر معين متهم بالإستعباد في حين
يراها البعض ضرورية لمجتمع كالمجتمع الموريتاني المريض المتشبث بتفاهات يراها
مشروعة.
بالإضافة للسبب سالف الذكر ، تأتي حالة الوعي العامة التي تشهدها نخبة
فئة (لحراطين) ومحاولتها النهوض مما تراه ركودا خيم عليها منذ زمن طويل ، تأتي
لتضيف للجو العام نوعا من الحركية مطلوب من أجل مصلحة البلد العليا، لأن البناء
الذي يقوم على أساس مشوه لا يمكن أن يستمر، لكن دعوني أشير إلى أن حالة الإستقطاب
هذه ما كانت لتحدث لو أن الدولة الموريتانية وعت بخطورة الموقف وعالجته بكل جدية
من خلال العدل والمساواة والتمكين لكل أطياف الشعب الموريتاني بدل الإعتماد على
مسرحيات فلكلورية باهتة ينتهي مفعولها مع آخر مشهد سيء منها. والضحية في نهاية
المطاف هو وحدة وتماسك الشعب الموريتاني، إلا أن البعض يرى الموقف من زاوية ضيقة جدا
لذلك يعتبر المطالبة بالإنصاف أو المساواة عنصرية وتهديد للوحدة الوطنية، بالعكس،
هي بلسم سيداوي ذلك الجرح الغائر الذي زرعته منظومة فقهية مجحفة ثم أحد أعتي
الأنظمة وأطولها فترة جثم فيها على كواهل المواطنين. ومن تلك المآسي التي لا تزال
إلى اليوم تنغص روح التآلف والتآخي مأساة أحداث 1989 الأليمة التي يبدو أنها لم
تندمل بعد والسبب بطبيعة الحال هو العلاج الممرض الذي اتبع في الفترة الماضية
لمداواة مخلفات تلك الأزمة.
الوحدة الوطنية إذا من هذا المنطلق لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال
الإهتمام بالكثير من القضايا مجتمعة، دون إهمال أي منها و يأتي في مقدمتها موضوع
العبودية وأحداث 1989، وقضايا أخرى.
أول العلاج هو الإعتراف بحجم
المشاكل التي تسبب انعدام الوحدة الوطنية كمفتاح للقضاء عليها، ثم بعد ذلك ننزل
إلى الميدان لنعالج تلك المشاكل واحدا واحدا وبكل تجرد، لقد أشرت سابقا أن الموضوع
الأبرز هو قضية العبودية ومخلفاتها ولن يتأتى علاج ذلك إلا من خلال التركيز على
الجانب الديني وابراز ما يثبت ان المواطنين متساوون أمام الله ولا فضل لأحدهم على
أحد، لا أتحث هنا عن أحاديث يتيمة لأحد الفقهاء هنا أو هناك وفي أوقات مختلفة،
أبدا، المسألة يتم حلها بإصدار فتوى جامعة من كل علماء وأئمة موريتانيا ( باستثناء
ممثل رابطة العلماء الموريتانيين في كيفة ومن ينحو منحاه)، توضح بصريح العبارة أن
ممارسة هذه الظاهرة وإلباسها لبوسا دينيا افتراء على الله ، أو لنقل أنها تفسيرا
غير سليم لما ورد في الدين الإسلامي الحنيف، يسبقها عمل إعلامي كبير حتى تحظى
بالزخم الكافي، ثم تقديم الإعتذار لكل من مورست عليهم العبودية إلى الآن.
تأتي في المرتبة الثانية أحداث 89
إذ ستظل تؤرق الوحدة الوطنية الى الأبد ما لم تحل بشكل جذري ولا
يكمن حلها بالضرورة في القتل بل قد يكون عبر ايجاد طريق ما لإرضاء الضحايا
و الطرق الى ذلك كثيرة ولن يعدم أحدها للسير بالمجتمع الموريتاني نحو الأفضل.
في الأخير يمكن أن تعزز الوحدة الوطنية عبر خطوات أخرى مهمة مثل تغيير
مناهج التعليم وادراج ما يحث على الوحدة الوطنية كأهمية الدولة وقيمتها ككيان أولى
بالتضحية من القبيلة مثلا، وذلك عبر غرس قيم الإحترام لدى النشء و التركيز على
التربية المدنية
و تدريس اللغات الوطنية و ثقافات مكونات المجتمع الموريتاني المختلفة وتقديم مساعدات وجوائز لمن يأتي بأفكار تعزز
الوحدة الوطنية ،تعميم التعليم وإلزاميته وخلق البنية التحتية اللازمة لذلك ومعاقبة كل من يخالف تلك المضامين حسب ظروفه
المعيشية.