الأحد، 15 سبتمبر 2013

قصة قصيرة : غرفة بلا ضمير


بناية شاهقة، تتوسط العديد من البنايات المتشابهة، لكنها تتميز بلون واجهتها الجنوبية المطلية حديثا بالأصفر ، لقد أعطيت هذا  اللون عن قصد  حتى تأخذ شكلا أنيقا وفخما يبرزها بشكل خاص. دلفت من الباب الخارجي للعمارة، كانت كل الدلائل تشير إلى فخامة نادرة وأناقة صينية من آخر تصميم لمهندس بارع.
صورة تخدم النص
كانت غرفة التحريرفي الدور الخامس، فسيحة جدا و مريحة، تتوسطها منضدة بيضوية الشكل بطول الغرفة تقريبا، ومن صنع إيطالي، الكراسي تتناثر هنا وهناك بجانب المنضدة، موضوعة بشكل غير مرتب ، وكانت أيضا بأشكال مختلفة. هناك إحدى عشر شخص يتوزعون بشكل غريب، وكأنها طريقة طقوسية خاصة، كل اثنين متجاورين، يتناجيان في أمر ما، وتصدر عنهم ابتسامات باهتة و مبهمة بين لحظة وأخرى، جدران الغرفة من وراء ظهورهم لا تتوفر على أي زخرفة، صامتة، بل ميتة ، تماما كما تركها صاحب الطلاء، كنت قد تلقيت دعوة لمقابلة صديق قديم ، إنه "عمر" ، هو رئيس التحرير بذاته ، لقد تغير بعدي تماما، ولكن أنفه المدبب لا يزال كما هو، كما أن شاربه العلوي احتفظ بنفس الهيئة دون تغيير مطلقا، أما لحيته وكالعادة فكيوم ولدته أمه، هكذا كان يمزح معي عندما نتقابل، يمرر يده عليها ويقول لي، ستكون هكذا دائما كما ولدتني أمي. ما تغير به فقط هو وجنتيه التين انتفختا قليلا بعد أن كانتا غائرتين، كما أن بشرته الأريترية صارت أكثر نضارة أما لون شعره فلا زال يحتفظ بطبيعته.
كؤوس الشاي تدور علينا بشكل سريع جدا، الكل منتشي ، آخر كأس صنعه لنا محمد أثار حالة النشوة هذه، مال علي أحد الموجودين وقال بشكل مازح، محمدٌ هذا متخصص في صنع الشاي بشكل لا يوصف، لكن المزحة لم تعجبه فهو يعتبرني غريب يجب ألا تفشى له الاسرار. أشار صديقي رئيس التحرير لمحمد أن كفى، أو أن اخرج، ثم تنحنح قليلا ليهيئ  الحضور لتلقى التوجيهات الصباحية والملاحظات المسجلة، عدل من هيئته، ثم حرك جهاز الآيباد قليلا بين يديه كأنه يتباهى به وابتسم بهدوء شديد. بذلته تركية الطراز، غاية في الأناقة، ساعته سويسرية فاخرة، ينظر إليها بين الفينة والأخرى. قال بشكل جاد ، أنتما الجالسان هناك في الطرف، لم تنفذا عملكما ليوم أمس بالشكل المطلوب، و أنت أيضا- أحد الجالسين بجانبه- ، أما أنتم الباقون فلا بأس بكم، لكن أريد أن تتذكروا دائما ما سأقول، لا أريد أن يشاهد أحدكم أي موضوع أو خبر جديد في أي موقع منافس إلا و أخذه وصاغه  بشكل مختلف بحيث نكون نحن أول من جاء به، وتعرفون جميعا أنني لا أريد أي إشارة من قريب أو بعيد لهذا الموقع، ثم غمز بعينه مع ابتسامة مفتعلة وقال : ملاحظة أخيرة، ثم سكت، ربما انتبه إلى وجودي وكانت الملاحظة ذات وقع خاص أحب تأجيلها، التفت إلي مداعبا ، هذا هو عملنا يا صديقي، جو إعلامي مشحون كما تعلم ، يتوجب عليك أن تخلق الخبر من لا شيء، التنافس على أشده، وهكذا فقط سنبقى المتصدرين كأعلى جريدة مبيعا وموقعا أكثر متصفحين على الإطلاق.

كان الشخص الحادي عشر موظفا جديدا تمت الاستعانة به نتيجة قوة المنافسة، لعله يضيف قيمة مضافة تحافظ على تصدر المؤسسة لوسائل الإعلام المحلية، لكن يبدو أنه لم يندمج بعد في جو العمل، لذلك ستكون له حصة منفردة من التعليمات. طلبني صديقي إلى غرفة خاصة، ثم دعا الشخص الحادي عشر، قال له ، إسمع، أولا ، لا نريد أخطاء لغوية، لا إشارة لأي موقع في مؤسستنا مهما نقلت عنه من أخبار – هم يفعلون نفس الشيء معنا- ، لا تنتقد الحكومة مطلقا، ثم لا تنتقد شركات الإتصال أيضا، أما الجيش فخط أحمر، والرئيس لا تذكره إلا بكلمة مديح أو شكر ، هذه هي المهنة يا صديقي، أن نحافظ على رموزنا الوطنية والسيادية هو عمل صالح، أليس كذلك؟ ، لم أجب بكلمة واحدة. في نفس اللحظة رن هاتف صديقي، أشار إلي بيده لأسكت، إنه الوزير وأفرج عن ابتسامة عريضة أظهرت لأول مرة أسنانه المتراصة  بعضها فوق بعض، لم تكد تلك الابتسامة تكتمل حتى تحول وجه صديقي إلى الضد تماما، ماذا تقول سيادة الوزير؟ إساءة لكم شخصيا في موقعي أنا ! هل هذا يعقل ! ، سوف أتصرف حالا، سأحذف الخبر وأحذف من وضعه أيضا، أبشروا سيدي الوزير وتقبلوا اعتذاري مقدما، أزبد وأرغد، ثم توارى خلف باب غرفة التحرير. بعد برهة خرج إلي ، لا يزال لونه ممتقعا، قال لي لقد فصلته ، وبالمناسبة هذا ما كنت أريد أن أحدثك بشأنه، نريدك أن تعمل معنا في المؤسسة لما لا حظت من نبل فيك ومثابرة، لكنني قلت على عجل ودون أن أترك له مجالا ليكمل، أنا لا أعمل في غرفة بلا ضمير وأوصدت الباب خلفي بكل ما أوتيت من قوة.     
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات:

رأيكم يهمني

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

blogtopsites'